تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

وأكن ، هذا مذهب أبي عليّ الفارسي. وقال القرطبي : عطفا على موضع الفاء لأنّ قوله : (فَأَصَّدَّقَ) لو لم تكن الفاء لكان مجزوما ، أي : أصدّق.

ثم زاد تعالى في الحث على المبادرة بالطاعات قبل الفوات بقوله تعالى مؤكدا لأجل عظم الرجاء من هذا المحتضر بالتأخير عاطفا على ما ، تقديره : فلا يؤخره الله فيفوته ما أراد : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ) أي : الملك الأعظم الذي لا كفء له فلا اعتراض عليه (نَفْساً) أيّ نفس كانت ، وحقق الأجل بقوله تعالى : (إِذا جاءَ أَجَلُها) أي : وقت موتها الذي حدّه الله تعالى لها فلا يؤخر الله تعالى نفس هذا القائل ، لأنها من جملة النفوس التي شملها النفي.

وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر ، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية بعد تحقيق الأولى ، ولهما أيضا إبدالها ألفا ، والباقون بتحقيقهما (وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة الشاملة علما وقدرة (خَبِيرٌ) أي : بالغ الخبرة والعلم ظاهرا وباطنا (بِما تَعْمَلُونَ) أي : توقعون عمله في الماضي والحال والمآل كله باطنه وظاهره.

وقرأ شعبة بالياء التحتية على الغيبة على الخبر عمن مات ، وقال هذه المقالة ، والباقون بالفوقية على الخطاب. وما قاله البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة المنافقين برىء من النفاق» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٥٤٦.

٣٢١

سورة التغابن

مدنية ، في قول الأكثرين ، وقال الضحاك : مكية ، وقال الكلبي : مدنية ومكية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن سورة التغابن نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلت بالمدنية في عوف بن مالك الأشجعي ، شكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جفاء أهله وولده ، فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) إلى آخرها ، وهي ثماني عشرة آية ، ومائتان وإحدى وأربعون كلمة ، وألف وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) مالك الملك فلا كفء له ولا مثيل (الرَّحْمنِ) أي : الذي وسع الخلائق بره الجليل (الرَّحِيمِ) الذي خص من عمه فوفقهم للجميل.

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠))

(يُسَبِّحُ) أي : يوقع التنزيه التامّ مع التجديد والاستمرار (لِلَّهِ) أي : الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال (ما فِي السَّماواتِ) أي : كلها (وَما فِي الْأَرْضِ) كذلك ، وقيل : اللام زائدة ، أي : ينزه الله تعالى ، قال الجلال المحلي : وأتى بما دون من تغليبا للأكثر (لِلَّهِ) أي : وحده (الْمُلْكُ) أي : كله مطلقا في الدنيا والآخرة (وَلَهُ) أي : وحده (الْحَمْدُ) أي : الإحاطة بأوصاف الكمال كلها ، فلذلك نزهه جميع مخلوقاته وقدّم الظرفين ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى ، وذلك بأنّ الملك على الحقيقة له ، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه ، والقائم به والمهيمن عليه ، وكذا الحمد لأنّ أصول النعم وفروعها منه وأما ملك غيره فتسليط منه

٣٢٢

واسترعاء وحمده اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يده (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

(هُوَ) أي : وحده (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي : أنشأكم على ما أنتم عليه (فَمِنْكُمْ) أي : فتسبب عن خلقه لكم وتقديره (كافِرٌ) أي : عريق في صفة الكفر (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي : راسخ في الإيمان في حكم الله تعالى في الأزل ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنّ الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ، ويعيدهم في القيامة مؤمنا وكافرا.

وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشية فذكر شيئا مما يكون فقال : تولد الناس على طبقات شتى ، يولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا ، ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا ، ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت مؤمنا» (١) ، أي : وسكت عن القسم الآخر ، وهو أن يولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت كافرا اكتفاء بالمقابل ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله تعالى فرعون في بطن أمّه كافرا ، وخلق يحيى بن زكريا عليهما‌السلام في بطن أمّه مؤمنا» (٢) وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه : «وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (٣) وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس ، وهو من أهل الجنة» (٤) قال القرطبي : قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم فيجري ما علم وأراد وحكم ، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال ، وقد يريده إلى وقت معلوم ، وكذلك الكفر.

وقيل : في الكلام محذوف ، تقديره : فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه ، قاله الحسن. وقال غيره : لا حذف لأنّ المقصود ذكر الطرفين ، وقيل : إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، والتقدير : هو الذي خلقكم ، ثم وصفهم فقال : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) كقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) [النور : ٤٥] ثم قال تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [النور : ٤٥] الآية. قالوا : فإنه خلقهم والمشي فعلهم ، وهذا اختيار الحسين بن الفضل ، قال : لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله تعالى : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) واحتجوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (٥) قال البغوي : وروينا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الغلام

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الفتن حديث ٢١٩١.

(٢) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٩٣ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٠ / ٢٧٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٩٠ ، ٣٢٤٣٦.

(٣) أخرجه البخاري في القدر حديث ٦٥٩٤ ، ومسلم في القدر حديث ٢٦٤٣ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٠٨ ، والترمذي في القدر حديث ٢١٣٧ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٧٦.

(٤) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٨٩٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ١١٢.

(٥) أخرجه البخاري في الجنائز حديث ١٣٨٥ ، ومسلم في القدر حديث ٢٦٥٨ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧١٤ ، والترمذي في القدر حديث ٢١٣٨.

٣٢٣

الذي قتله الخضر طبع على الكفر» (١) وقال تعالى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] وروى أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «وكل الله بالرحم ملكا ، فيقول : أي رب نطفة ، أي رب علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها ، قال : يا رب ذكر أم أنثى ، شقي أم سعيد ، فما الرزق ، فما الأجل ، فيكتب ذلك في بطن أمه» (٢) وقال الضحاك : فمنكم كافر في السرّ مؤمن في العلانية كالمنافق ، ومنكم مؤمن في العلانية والسرّ ، كعمار وزيد. وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب ، يعني : في شأن الأنواء كما جاء في الحديث. قال القرطبي : وقال الزجاج : وهو أحسن الأقوال.

والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر وكفره فعل له ، وكسب واختيار ، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له ، وكسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته ، فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأنّ الله تعالى أراد ذلك منه وقدّره عليه وعلمه منه ، والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأنّ الله تعالى قدره عليه وعلمه منه ، ولا يجوز أن يوجد من كل منهما غير الذي قدره عليه وعلمه منه ، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل فلا يليقان بالله تعالى. قال البغوي : وهذا طريق أهل السنة ، من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر.

قال الرازي : فإن قيل : إنه تعالى حكيم وقد سبق في علمه أنه تعالى إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر فأيّ حكمة دعت إلى خلقهم؟.

فالجواب : إذا علمنا أنه تعالى حكيم علمنا أنّ أفعاله كلها على وفق الحكمة فيكون خلقه تعالى هذه الطائفة على وفق الحكمة ، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك ، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة (وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة الكاملة (بِما تَعْمَلُونَ) أي : توقعون عمله كسبا (بَصِيرٌ) أي : بالغ العلم بذلك ، فهو الذي خلق جميع أعمالكم التي نسب كسبها إليكم ، وهو خالق جميع الاستعدادات والصفات كما خلق الذوات خلافا للقدرية ، لأنه لا يتصور أن يخلق الخالق ما لا يعلمه ، ولو سئل الإنسان كم مشى في يومه من خطوة لم يدر فكيف لو سئل أين موضع مشيه ، ومتى زمانه فكيف ، وإنه ليمشي أكثر مشيه وهو غافل عنه ، ومن جهل أفعاله كما وكيفا وأينا وغير ذلك لم يكن خالقا لها بوجه.

ولما ذكر المظروف ذكر ظرفه دالا على تمام إحاطته بالبواطن والظواهر.

وقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ) أي : على علوها وكبرها (وَالْأَرْضَ) على سعتها (بِالْحَقِ) أي : بالأمر الذي يطابقه الواقع لما أراد (وَصَوَّرَكُمْ) أي : آدم عليه‌السلام خلقه بيده كرامة له. قال مقاتل : وقيل : جميع الخلائق على صور لا توافق شيئا من صور العلويات ، ولا السفليات ، ولا فيها صور توافق الأخرى من كل وجه (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) فجعلها أحسن الحيوانات كلها كما هو مشاهد ، وبدليل أن الإنسان لا يتمنى أن يكون على خلاف ما يرى من سائر الصور ، ومن حسن صورته أن خلقه منتصبا غير منكب كما قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] كما يأتى إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٦١ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٠٥.

(٢) أخرجه البخاري في القدر حديث ٦٥٩٥ ، ومسلم في القدر حديث ٢٦٤٦.

٣٢٤

فإن قيل : قد يوجد في أفراد هذا النوع من كل مشوه الخلقة سمج الصورة.

أجيب : بأنه لا سماجة لأن الحسن في المعاني ، وهو على طبقات ومراتب ، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه ، فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حدّه ، فقبح القبيح منه إنما هو بالنسبة إلى أحسن منه. ولذا قال الحكماء : شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان ، فقدرة الله سبحانه وتعالى لا تتناهى.

قال البقاعي : فإياك أن تصغي لما وقع في كتب الغزالي إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، فإن ذلك ينحل إلى أنه سبحانه لا يقدر أن يخلق أحسن من هذا العالم ، وهذا لا يقوله أحد ، ا. ه. وهو لا ينقص مقدار الغزالي فإن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه كما قال الإمام مالك ، وعزاه الغزالي نفسه إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال الشافعي : صنفت هذه الكتب وما ألوت فيها جهدا وإني لا علم أن فيها الخطأ لأن الله تعالى يقول : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ولما كان التقدير فكان منه سبحانه المبدأ عطف عليه قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ) وحده (الْمَصِيرُ) أي : المرجع بعد البعث فيجازى كلا بعمله.

(يَعْلَمُ) أي : علمه حاصل في الماضي والحال والمآل (ما) أي : كل شئ (فِي السَّماواتِ) أي : كلها (وَالْأَرْضِ) كذلك (وَيَعْلَمُ) أي : على سبيل الاستمرار (ما تُسِرُّونَ) أي : تخفون (وَما تُعْلِنُونَ) أي : تظهرون من الكليات والجزئيات (وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة التامة (عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم (بِذاتِ) أي : صاحبة (الصُّدُورِ) من الأسرار والخواطر التي لم تبرز في الخارج سواء كان صاحب الصدر قد علمها أم لا ، وعلمه لكل ذلك على حد سواء لا تفاوت فيه بين علم الخفي وعلم الجلي نبه بعلمه ما في السماوات والأرض ، ثم يعلم ما يسره العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه ذوات الصدور إن شيئا من الجزئيات والكليات غير خاف عليه ، ولا عازب عنه ، ولا يجترىء على شيء مما يخالف رضاه ، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد ، وكل ما ذكره بعد قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) كما ترى في معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ) أيها الناس ولا سيما الكفار (نَبَأُ) أي : خبر (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) كقوم نوح وهود وصالح (فَذاقُوا) أي : باشروا مباشرة الذائق (وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي : ضرر كفرهم في الدنيا ، وأصله الثقل ، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة ، والوابل : المطر الثقيل القطر (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم في البرزخ ثم يوم القيامة التي هي موضع الفصل الأعظم.

(ذلِكَ) أي : الأمر العظيم من الوبال الدال قطعا على أن الكفر أبطل الباطل وأنه مما يغضب الخالق (بِأَنَّهُ) أي : بسبب أن الشان العظيم البالغ في الفظاعة (كانَتْ تَأْتِيهِمْ) على عادة مستمرة (رُسُلُهُمْ) أي : رسل الله الذين أرسلهم إليهم (بِالْبَيِّناتِ) أي : الحجج الظاهرات على الإيمان (فَقالُوا) أي : الكل لرسلهم منكرين غاية الإنكار تكبرا ، وقولهم : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) يجوز أن يرتفع بشر على الفاعلية ويكون من الاشتغال ، وهو الأرجح لأن الأداة تطلب الفعل ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبر ، وجمع الضمير في يهدوننا ؛ إذ البشر اسم جنس ، وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسما للجنس ، وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد كقوله تعالى : (ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١] فأنكروا على الملك الأعظم إرساله لهم (فَكَفَرُوا) أي : بهذا القول ؛ إذ قالوه استصغارا ولم

٣٢٥

يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده (وَتَوَلَّوْا) عن الإيمان.

فإن قيل : قوله تعالى : (فَكَفَرُوا) تعميم يفهم منه التولي فما الحاجة إلى ذكره؟ أجيب : بأنهم كفروا وقالوا : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية ، وهذا هو التولي فكأنهم كفروا وقالوا قولا يدل على التولي ، فلهذا قال : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا ،) وقيل : كفروا بالرسل وتولوا بالبرهان ، وأعرضوا عن الإيمان والموعظة.

ونبه بقوله تعالى : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أي : الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه على أن هذا إنما هو لمصالح الخلق فهو غني عن كل شيء.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) يوهم وجود التولي والاستغناء معا ، والله تعالى لم يزل غنيا؟ أجيب : بأن معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك (وَاللهُ) أي : المستجمع لصفات الكمال (غَنِيٌ) عن خلقه (حَمِيدٌ) أي : محمود في أفعاله.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : أوقعوا الستر لما دلت عليه العقول من وحدانية الله تعالى ، ولو على أدنى الوجوب. وزعم قال ابن عربي : كنية الكذب ، وقال الزمخشري : الزعم ادعاء العلم ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «زعموا مطية الكذب» (١) وعن شريح : لكل شيء كنية ، وكنية الكذب زعموا. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أبي داود : «بئس مطية الرجال زعموا» (٢)(أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي : من أي باعث ما بوجه من الوجوه (قُلْ) أي : يا أشرف الرسل لهؤلاء البعداء (بَلى) أي : لتبعثن ثم أكد بصريح القسم فقال : (وَرَبِّي) أي : المحسن إلى بالانتقام ممن كذب بي (لَتُبْعَثُنَ) أي : بأهون شيء وأيسر أمر (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ) أي : تخبرنّ إخبارا عظيما ممن يقيمه الله تعالى لإخباركم (بِما عَمِلْتُمْ) أي : بأعمالكم لتجزون عليها (وَذلِكَ) أي : الأمر العظيم عندكم من البعث والحساب (عَلَى اللهِ) أي : المحيط بصفات الكمال وحده (يَسِيرٌ) إذ الإعادة أسهل من الابتداء.

فإن قيل : كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث ، وهم قد أنكروا الرسالة؟.

أجيب : بأنهم أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقادا جازما فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون الإخبار عنده صدقا أظهر من الشمس في اعتقاده ، ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسما بعد قسم.

ثم إنه تعالى لما أخبر عن البعث ، والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان قال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ) أي : الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء (وَرَسُولِهِ) أي : كل من أرسله ولا سيما محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَالنُّورِ) أي : القرآن (الَّذِي أَنْزَلْنا) أي : بما لنا من العظمة ؛ لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلالة كما يهتدى بالنور في الظلمات.

فإن قيل : هلا قيل : ونوره ، بالإضافة كما قال : ورسوله؟ أجيب بأن الألف واللام في النور بمعنى الإضافة فكأنه قال : ورسوله ونوره (وَاللهُ) أي : المحيط علما وقدرة (بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٧٣.

(٢) أخرجه أبو داود في الأدب حديث ٤٩٧٢ ، وأحمد في المسند ٤ / ١١٩ ، ٥ / ٤٠١.

٣٢٦

أي : بالغ العلم بما تسرون وما تعلنون فراقبوه في السر والعلانية.

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) منصوب بقوله تعالى : (لَتُنَبَّؤُنَ) عند النحاس و (بخبير) عند الحوفي لما فيه من معنى الوعيد كأنه قال : والله يعاقبكم يوم يجمعكم ، وباذكر مضمرا عند الزمخشري فيكون مفعولا به ، أو بما دلّ عليه الكلام ، أي : تتفاوتون يوم يجمعكم ؛ قاله أبو البقاء (لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي : لأجل ما يقع في ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة الذي يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين من الإنس والجن وجميع أهل السماء والأرض.

وقيل : يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله ، وقيل : يجمع فيه بين الظالم والمظلوم ، وقيل : يجمع فيه بين كل نبي وأمّته ، وقيل : يجمع فيه ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي ، بل هو جامع لجميع ما ذكر (ذلِكَ) أي : اليوم العظيم (يَوْمُ التَّغابُنِ) والتغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وهو أن يغبن بعضهم بعضا لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء ، وفيه تهكم بالأشقياء ؛ لأن نزولهم ليس بغبن. ولهذا قيل : التفاعل هنا من واحد لا من اثنين ، وفي الحديث «ما من عبد أدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة» (١) وهو معنى (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظاما له وإن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت.

وذكر في بعض التفاسير أن التغابن هو أن يكتسب الرجل مالا من غير وجهه ليرثه غيره فيعمل فيه بطاعة الله فيدخل الأول النار والثاني الجنة بذلك المال ، فذلك هو الغبن البين ، والمغابن ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين ، والمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة ، ويظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وبصنيعه في الآثام.

قال الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه. فإن قيل : فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها؟ أجيب : بأنه تمثيل للغبن في الشراء والبيع كقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا ، ذكر أيضا أنهم غبنوا وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا ، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة ، وهذا نوع مبادلة اتساعا ومجازا.

وقد فرق الله تعالى الخلق فريقين فريقا للجنة وفريقا للنار ، وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف : رجل علم علما فضيعه ولم يعمل به فشقي به ، ورجل علم علما وعمل به فنجا به ، ورجل اكتسب مالا من وجوه يسأل عنها وشح عليه وفرط في طاعة ربه بسببه ولم يعمل فيه خيرا ، وتركه لوارث لا حساب عليه ، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه ، ورجل كان له عبد فعمل ذلك العبد بطاعة ربه فسعد ، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي. وروى القرطبي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولا : ما أنتما قائلان؟ فيقول الرجل : يا رب أوجبت نفقتها علي فنفقتها من حرام ومن حلال ، وهؤلاء

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٣٢٧

الخصوم يطلبون ذلك ، ولم يبق لي ما أوفي ، فتقول المرأة : يا رب وما عسى أن يقول اكتسبه حراما وأكلته حلالا ، وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعدا له وسحقا ، فيقول الله تعالى : قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة ، فتطلع عليه من طبقات الجنة فتقول له : غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به ، فذلك يوم التغابن» (١).

وقال بعض علماء الصوفية : إن الله تعالى كتب الغبن على الخلق أجمعين فلا يلقى أحد ربه إلا مغبونا ، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن ، وإن كان محسنا إن لم يزدد» (٢).

تنبيه : استدل بعض العلماء بقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية لأن الله تعالى خص التغابن بيوم القيامة فقال تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) وهذا الاختصاص يفيد أن لا غبن في الدنيا ، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث ، واختاره البغداديون واحتجوا عليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان بن سعد : «إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا» (٣) ولأن الغبن في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه ، فمضى في البيوع إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا لأنه لا يخلو منه ، فإذا كان كثيرا أمكن الاحتراز عنه فوجب الرد به.

والفرق بين القليل والكثير في الشريعة غير معلوم فقدر بالثلث ، وهذا الحد اعتبره الشارع في الوصية وغيرها ، ويكون معنى الآية على هذا يوم التغابن الجائز مطلقا من غير تفصيل ، وذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبدا (وَمَنْ يُؤْمِنْ) أي : يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار (بِاللهِ) أي : الملك الأعظم الذي لا كفء له (وَيَعْمَلْ) تصديقا لإيمانه (صالِحاً) أي : عملا هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في جلب المصالح ودفع المضار (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) التي غلبه عليها نقصان الطبع واتبع ذلك الحامل الآخر ، وهو التوجيه بجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء ، والرهبة والرغبة ، والنذارة والبشارة (وَيُدْخِلْهُ) أي : رحمة له وإكراما وفضلا (جَنَّاتٍ) أي : بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ورياض مديدة متنوعة الأزاهير عطرة النشر بهيج ريها ، وأشار إلى دوام ريها بقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : من تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ) وقرأ نكفر عنه وندخله ، نافع وابن عامر بالنون فيهما ، أي : نحن بما لنا من العظمة ، والباقون بالياء التحتية ، أي : الله الواحد القهار (خالِدِينَ) أي : مقدرين الخلود (فِيها) وأكده بقوله : (أَبَداً) فلا خروج لهم منها (ذلِكَ) أي : الأمر العالي جدا من الغفران والإكرام (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه جامع لجميع المصالح ودفع المضار وجلب المسار ، ومن جملة ذلك النظر إلى وجه الله الكريم.

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ١٣٧.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ١٣٧.

(٣) أخرجه البخاري في البيوع حديث ٢١١٧ ، ومسلم في البيوع حديث ١٥٣٣ ، وأبو داود في البيوع حديث ٣٥٠٠ ، والترمذي في البيوع حديث ١٢٥٠ ، والنسائي في البيوع حديث ٤٤٨٤ ، وابن ماجه في الأحكام حديث ٢٣٥٤.

٣٢٨

ولما ذكر تعالى الفائز بلزومه التقوى ترغيبا اتبعه بضده ترهيبا فقال عز من قائل : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : غطوا أدلة ذلك اليوم فكانوا في الظلام (وَكَذَّبُوا) أي : أوقعوا جميع التغطية وجميع التكذيب (بِآياتِنا) أي : بسببها مع ما لها من العظمة بإضافتها إلينا وهي القرآن فلم يعملوا به (أُولئِكَ) أي : البعداء البغضاء (أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ) أي : مقدرين الخلود (فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هي ، قال الرازي : فإن قيل : قال تعالى في حق المؤمنين (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) بلفظ المستقبل ، وفي الكفار قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بلفظ الماضي.

فالجواب : أن تقدير الكلام : ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا يدخله جنات ، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.

فإن قيل : قال تعالى : (يُؤْمِنْ) بلفظ الوحدان و (خالِدِينَ فِيها) بلفظ الجمع. أجيب : بأن ذلك بحسب اللفظ ، وهذا بحسب المعنى.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) بعد قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها) وذلك بئس المصير؟ أجيب : بأن ذلك وإن كان في معناه فهو تصريح بما يؤكده كما في قوله : (أَبَداً)

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

(ما أَصابَ) أحدا (مِنْ مُصِيبَةٍ) أيّ مصيبة كانت دينية أو دنيوية في نفس أو مال أو قول أو فعل تقتضي هما ، أو توجب عقابا آجلا أو عاجلا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بتقدير الملك الأعظم. وقال الفراء : يريد إلا بأمر الله. وقيل : إلا بعلم الله ، وقيل : سبب نزول هذه الآية أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله تعالى عن المصائب في الدنيا ، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة إلا بقضائه وقدره.

فإن قيل : بم يتصل قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ؟) أجيب : بأنه يتعلق بقوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ.)

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) يصدق بأنه لا تصيبه مصيبة إلا بقضاء الله الملك الأعظم وتقديره وإذنه (يَهْدِ قَلْبَهُ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو أن يجعل في قلبه اليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، أي : فيسلم لقضاء الله وقدره. وقال الكلبي : هو إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر.

وقيل : يهد قلبه إلى نيل الثواب في الجنة ، وقيل : يثبته على الإيمان. وقال أبو عثمان الحيري : من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل : يهد قلبه عند المصيبة فيقول : إنا لله وإنا

٣٢٩

إليه راجعون ، قاله ابن جبير. (وَاللهُ) أي : الملك الذي لا نظير له (بِكُلِّ شَيْءٍ) مطلقا من غير استثناء (عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه تسليم من انقاد لأمره ، فإذا تحقق من هدى قلبه ذلك زاح عنه كل اعتقاد باطل من كفر أو بدعة أو صفة خبيثة.

(وَأَطِيعُوا اللهَ) أي : الملك الأعلى الذي له الأمر كله (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي : هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله تعالى ، واعملوا بكتابه وأطيعوا الرسول في العمل بسنته (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : عن الطاعة (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا) أضافه إليه على وجه الكمال تعظيما له وتهديدا لمن يتولى عنه (الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي : الظاهر في نفسه المظهر لكل أحد أنه أوضح له غاية الإيضاح ، ولم يدع لبسا ، وليس إليه خلق الهداية في القلوب.

(اللهُ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو القادر على خلق الهداية في القلوب والإقبال بها لا يقدر على ذلك غيره (وَعَلَى اللهِ) أي : الذي له الأمر لا على غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك. وقال الزمخشري : هذا بعث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التوكل عليه ، والتقوى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.

واختلف في سبب نزول قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي : وإن أظهرن غاية المودة (وَأَوْلادِكُمْ) أي : وإن أظهروا غاية الشفقة (عَدُوًّا لَكُمْ) فقال ابن عباس : نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جفاء أهله وولده فنزلت ذكره النحاس ، وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) فإنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزو بكوه ورققوه ، وقالوا : إلى من تدعنا فيرق فيقيم ، فنزلت هذه الآية إلى آخر السورة بالمدينة.

وروى الترمذي عن ابن عباس وسئل عن هذه الآية قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة ، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأوا الناس قد تفقهوا في الدين ، فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية (١) ، حديث حسن صحيح.

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الشيطان قعد لابن آدم في طرق الإيمان فقال له : أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن ، ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له : أتهاجر وتترك أهلك ومالك فخالفه فهاجر ، ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له : أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل ، فحق على الله أن يدخله الجنة» (٢).

وقعود الشيطان يكون بوجهين : أحدهما : يكون بالوسوسة ، والثاني : أن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب قال تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) [فصلت : ٢٥] وفي حكمة عيسى عليه الصلاة والسلام : من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان في الدنيا

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣١٧.

(٢) روي الحديث بلفظ : «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ...» أخرجه بهذا اللفظ النسائي في الجهاد باب ١٩ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٨٣.

٣٣٠

عبدا. وقال عليه الصلاة والسلام : «تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد القطيفة» (١) ولا دناءة أعظم من دناءة الدينار والدرهم ، ولا أخس من همة ترتفع بثوب جديد ويدخل في قوله تعالى : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) الذكر والأنثى ، فكما أن الرجل تكون زوجته عدوا له كذلك المرأة يكون زوجها عدوا لها بهذا المعنى (فَاحْذَرُوهُمْ) أي : أن تطيعوهم في التخلف عن الخير ، ولا تأمنوا غوائلهم (وَإِنْ تَعْفُوا) أي : توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك ، فإن من طبع على شيء لا يرجع عنه وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه تعالى لئلا يكون سببا للذم المنهي عنه (وَتَصْفَحُوا) أي : بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان (وَتَغْفِرُوا) أي : بأن تستروا ذنوبهم سترا تاما شاملا للعين والأثر بالتجاوز (فَإِنَّ اللهَ) أي : الجامع لصفات الكمال (غَفُورٌ) أي : بالغ المحو لأعيان الذنوب وآثارها جزاء لكم على غفرانكم لهم ، وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم (رَحِيمٌ) فيكرمكم بعد ذلك الستر بالإنعام فتخلقوا بأخلاقه تعالى يزدكم من فضله.

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ) أي : عامة (وَأَوْلادُكُمْ) كذلك (فِتْنَةٌ) أي : اختبار من الله تعالى لكم ، وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكي ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون عليه نعمة ، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه ، ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده. روى أبو نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال : يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته. وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات ويكفي في فتنة المال قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) [التوبة : ٧٥] وعن ابن مسعود : لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة ، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال ولا ولد إلا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن ليقل اللهم أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ) أدخل من للتبعيض لأنهم كلهم ليسوا بأعداء ، ولم يذكر في قوله تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما.

روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : «رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه ، ثم قال : صدق الله عزوجل (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» ثم أخذ في خطبته (٢).

تنبيه : قدم الأموال على الأولاد لأن فتنة المال أكثر ، وترك ذكر الأزواج في الفتنة قال البقاعي : لأن منهن من يكون صلاحا وعونا على الآخرة (وَاللهُ) أي : ذو الجلال (عِنْدَهُ) وناهيك بما يكون منه بسبيل جلاله وعظمته (أَجْرٌ) ثم وصفه بقوله تعالى : (عَظِيمٌ) أي : لمن ائتمر بأوامره التي أمره بها.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٨٨٧ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٧٥ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٣٥.

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ٢٢٧ ، والترمذي في المناقب باب ٣٠ ، والنسائي في الجمعة باب ٣٠ ، والعيدين باب ٢٧ ، وابن ماجه في اللباس باب ٢٠ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٥٤.

٣٣١

وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ) أي : الملك الأعلى (مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي : جهدكم ووسعكم ناسخ لقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] قاله قتادة والربيع بن أنس والسدي ، وذكر الطبري عن ابن زيد في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) قال جاء أمر شديد قال : ومن يعرف قدر هذا ويبلغه ، فلما علم الله تعالى أنه قد اشتد عليهم نسخه عنهم ، وجاء بهذه الآية الأخرى فقال (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقال ابن عباس : وهي محكمة لا نسخ فيها ، ولكن (حَقَّ تُقاتِهِ) أن يجاهدوا فيه حق جهاده ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.

فإن قيل : إذا كانت الآية غير منسوخة فكيف الجمع بين الآيتين ، وما وجه الأمر باتقائه حق تقاته مطلقا من غير تخصيص ولا مشروطا بشرط ، والأمر باتقائه بشرط الاستطاعة؟ أجيب : بأن قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) معناه : فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعله فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فتتركوا الهجرة وأنتم مستطيعون ، وذلك أن الله تعالى قد عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٦] إلى قوله تعالى : (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) [النساء : ٩٩] فأخبر تعالى أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا بالإقامة في دار الشرك ، فكذلك معنى قوله تعالى : (مَا اسْتَطَعْتُمْ) في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها فتنة أموالكم وأولادكم ، ويدل على صحة هذا أن قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) عقب قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) ولا خلاف بين علماء التأويل في أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك كما تقدم ، وهذا اختيار الطبري.

وقال ابن جبير : قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي : فيما يتطوع به من نافلة أو صدقة ، فإنه لما نزل قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفا فيهم (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فنسخت الأولى.

قال الماوردي : ويحتمل أن يثبت هذا النقل لأن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها ، لأنه لا يستطيع اتقاءها (وَاسْمَعُوا) أي : سماع إذعان وتسليم لما توعظون به وجميع أوامره (وَأَطِيعُوا) أي : وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة (وَأَنْفِقُوا) أي : أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما وجب أو ندب إليه ، والإنفاق لا يخص نوعا بل يكون بكل ما رزق الله من الذاتي والخارجي. وقوله تعالى : (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) في نصبه أوجه : أحدها : قال سيبويه إنه مفعول بفعل مقدر دل عليه (وَأَنْفِقُوا) تقديره : وقدموا خيرا لأنفسكم كقوله تعالى : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧١] الثاني : تقديره يكن الإنفاق خيرا فهو خبر كان المضمرة ، وهو قول أبي عبيدة. الثالث : أنه نعت مصدر محذوف ، وهو قول الكسائي والفراء ، أي : إنفاقا خيرا لأنفسكم فإن الله يعطي خيرا منه في الدنيا مع ما تزكى به النفس ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة مما لا يدري كنهه فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف.

٣٣٢

ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عمم في جميع الأوامر بقوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) فيفعل في ماله جميع ما أمر به موقنا به مطمئنا إليه حتى يرتفع عن قلبه الإخطار ، ويتحرر عن رق المكنونات ، والشح خلق باطنى هو الداء العضال ، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح ، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها ، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها وتارة بإنفاق المال ومن فعل ما فرض عليه خرج من الشح. ولما كان الواقي هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله تعالى : (فَأُولئِكَ) أي : العالو الرتبة (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الفائزون الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه.

ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ) أي : الملك الأعلى ذا الغنى المطلق الحائز لجميع صفات الكمال (قَرْضاً حَسَناً) والقرض الحسن هو التصدق من الحلال مع طيب النفس ومع الإخلاص والمبادرة (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) أي : لأجلكم خاصة أقل ما يكون بالواحد عشرا إلى ما لا يتناهى على حسب النيات.

قال القشيري : يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم ، وعلى الفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم من مروآتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم ، فالغني يقال له آثر حكمي على مرادك في مالك وغيره ، والفقير يقال له : آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك.

ولما كان الإنسان لما له من النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيرا فهو متين لن يشاده أحد إلا غلبه قال تعالى : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي : يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره (وَاللهُ) أي : الذي لا تقاس عظمته بشيء (شَكُورٌ) أي : بليغ الشكر لمن يعطي لأجله ، ولو كان قليلا فيثيبه ثوابا جزيلا خارجا عن الحصر ، وهو ناظر إلى المضاعفة (حَلِيمٌ) فلا يعجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب ، وإن عظم بل يمهل طويلا ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب ، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه فإن غضب الحليم لا يطاق ، وهو راجع إلى الغفران.

(عالِمُ الْغَيْبِ) وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة ، ولا علم لصاحب القلب به فضلا عن غيره (وَالشَّهادَةِ) وهو كل ما ظهر وكان بحيث يعلمه الخلق ، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه موجب للمؤمن ترك ظاهر الإثم وباطنه ، وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله تعالى كأنه يراه (الْعَزِيزُ) أي : الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء (الْحَكِيمُ) أي : بالغ الحكمة التي يعجز عن إدراكها الخلائق.

وقال ابن الأنباري : الحكيم : هو المحكم لخلق الأشياء ، فصرف عن مفعل إلى فعيل ، ومنه قوله تعالى : (الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [لقمان : ١ ـ ٢] معناه : المحكم فصرف من مفعل إلى فعيل ، وما قاله البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٥٥٣.

٣٣٣

سورة الطلاق

مدنية وهي إحدى عشرة آية ، وقيل : اثنتا عشرة آية ، وقيل : ثلاث عشرة آية ومائتان وتسع وأربعون كلمة ، وألف وستون حرفا

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له جميع صفات الكمال (الرَّحْمنِ) الذي عم برحمته والنوال (الرَّحِيمِ) الذي خص بتمام النعمة ذوي الهمم العوال.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣))

وقرأ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) نافع بالهمزة وسهل الهمزة من إذا وأبدلها أيضا واوا. خصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهارا لتقدمته واعتبارا لرآسته ، وأنه لسان قومه والذي يصدرون عن رأيه ، ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكم كلهم وسادا مسد جميعهم.

وقيل : إنه على إضمار قول ، أي يا أيها النبي قل لأمتك (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) أي : أردتم طلاق هذا النوع واحدة منهن فأكثر. وقيل : إنه خطاب له ولأمته ، والتقدير : يا أيها النبي وأمته فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه كقوله : إذا حذفته رجلها ، أي : ويدها ، وكقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] وقيل : إنه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيما له كقوله (١) :

فإن شئت أحرمت النساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للعرجي في ديوانه ص ١٠٩ ، ولسان العرب (نقخ) ، (برد) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٢٩٢ ، وتاج العروس (نقخ) ، (برد) ، ولعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص ٣١٥ ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ١ / ٢٤٣ ، وديوان الأدب ١ / ١٠٢ ، وتهذيب اللغة ١٤ / ١٠٥ ، ويروى البيت للحارث بن خالد المخزومي وهو في ديوانه ص ١١٧ (راجع ديوان العرجي ص ١٠٧ ، الهامش).

٣٣٤

قال الرازي : وجه تعلق أول هذه السورة بآخر التي قبلها ، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وفي أول هذه السورة إشارة إلى كمال علمه بمصالح النساء والأحكام المخصوصة بطلاقهن ، فكأنه بين ذلك الكلي بهذه الجزئيات.

وروى ابن ماجه عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ثم راجعها ، وعن أنس قال : طلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة فأتت أهلها ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) وقيل له : راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك في الجنة ، ذكره الماوردي ، والقشيري. وزاد القشيري ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ.)

وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حفصة لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة ، فطلقها تطليقة فنزلت. وقال السدي : نزلت في عبد الله بن عمر «طلق امرأته حائضا تطليقة واحدة فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء أمسكها وإن شاء طلقها قبل أن يجامع فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» (١). وهو قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي : في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة ، وقد قيل : إن رجالا فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعمر بن سعيد بن العاص ، وعتبة بن غزوان فنزلت الآية فيهم. وروى الدراقطني (٢) عن ابن عباس أنه قال : «الطلاق على أربعة وجوه : وجهان حلالان ، ووجهان حرامان.

فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا عن غير جماع ، وأن يطلقها حاملا مستبينا حملها.

وأما الحرام فأن يطلقها حائضا ، أو أن يطلقها حين يجامعها لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا».

تنبيه : الطلاق ينقسم إلى سني وبدعي ولا ولا ، فطلاق موطوأة ولو في دبر تعتد بأقراء سني إن ابتدأتها الأقراء عقب الطلاق ، ولم يطأها في طهر طلقها فيه أو علق طلاقها بمضي بعضه ، ولا وطئها في نحو حيض قبله ، ولا في حيض طلق مع آخره أو علق بآخره وذلك لاستعقابه الشروع في العدة وعدم الندم فيمن ذكرت ، وإلا فبدعي وإن سألته طلاقا بلا عوض وطلاق غير الموطوأة المذكورة بأن لم توطأ أو كانت صغيرة أو آيسة أو حاملا منه وخلع زوجته في زمن حيض بعوض لا سني ولا بدعي ، والبدعي حرام للنهي عنه.

وقسم جماعة الطلاق إلى واجب كطلاق المولى ، أي : واجب مخير إن لم يكن عذر ، ومعين إن كان عذر شرعي كالإحرام ، ومندوب كطلاق غير مستقيمة الحال كسيئة الخلق ، ومكروه كمستقيمة الحال ، وحرام كطلاق البدعة. وأشار الإمام إلى المباح بطلاق من لا يهواها ، ولا تسمح نفسه بمؤنتها من غير تمتع بها ، وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الطلاق حديث ٥٣٣٢ ، ومسلم في الطلاق حديث ١٤٧١ ، وأبو داود في الطلاق حديث ٢١٨٥ ، والترمذي في الطلاق حديث ١١٧٥ ، والنسائي في الطلاق حديث ٢٣٩٩ ، وابن ماجه في الطلاق ٢٠٢٢.

(٢) انظر سنن الدارقطني ٥ / ٤.

٣٣٥

«إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» (١) وعن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تزوجوا ولا تطلقوا ، فإن الطلاق يهتز منه العرش» (٢) وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا معاذ ما خلق الله تعالى شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ، ولا خلق الله تعالى شيئا أبغض إليه من الطلاق» (٣) وعن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق» (٤) واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق ، فقالت طائفة بجوازه ، وهو مروي عن طاوس ، وبه قال حماد الكوفي ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي. وقال مالك والأوزاعي : لا يجوز الاستثناء في الطلاق والعتق. وقال قتادة : لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة. قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول.

ولما كان نظر الشارع إلى العدة شديدا صرح بصيغة الأمر فقال تعالى : (وَأَحْصُوا) أي : اضبطوا ضبطا كأنه في إتقانه محسوس (الْعِدَّةَ) ليعرف زمان الرجعة والنفقة والسكنى ، وحل النكاح لأخت المطلقة مثلا ونحو ذلك من الفوائد الجليلة (وَاتَّقُوا) أي : في ذلك (اللهَ) أي : الملك الأعظم الذي له الخلق والأمر (رَبَّكُمْ) أي : لإحسانه في تربيتكم في حملكم علي الحنيفية السمحة ورفع جميع الآصار عنكم (لا تُخْرِجُوهُنَ) أي : أيها الرجال في حال العدة (مِنْ بُيُوتِهِنَ) أي : المسكن التي وقع الفراق فيها ، وهي مساكنهن التي يسكنها قبل العدة ، وهي بيوت الأزواج ، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى.

وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء الموحدة ، والباقون بكسرها (وَلا يَخْرُجْنَ) أي : من بيتوهن حتى تنقضي عدتهن ولو وافق الزوج على ذلك ، وعلى الحاكم المنع منه لأن في العدة حقا لله تعالى ، وقد وجبت في ذلك المسكن. وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) مستثنى من الأول ، والمعنى إلا أن تبذو على الزوج فإنه كالنشوز في إسقاط حقها.

وقال ابن عباس : الفاحشة المبينة أن تبذو على أهل زوجها فيحل إخراجها لسوء خلقها وقال ابن مسعود : أراد بالفاحشة المبينة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها ، ثم ترد إلى منزلها. وقال قتادة : الفاحشة النشوز ، وذلك أن يطلقها على النشوز فتحوّل عن بيته. ويجوز أن يكون مستثنى من الثاني للمبالغة في النهي والدلالة على أن خروجها فاحشة هذا كله عند عدم العذر ، أما لعذر كشراء غير من لها نفقة على المفارق نحو طعام كقطن وكتان نهارا ، وغزلها ونحوه كحديثها وتأنيسها عند جارتها ليلا وترجع وتبيت ببيتها ، فإنه جائز للحاجة إلى ذلك ، وكخوف على نفس أو مال من نحو هدم وغرق وفسقة مجاورين لها وشدة تأذيها بجيران وشدة تأذيهم بها للحاجة إلى ذلك ، بخلاف الأذى اليسير إذ لا يخلو منه أحد ومن الجيران الأحماء وهم أقارب الزوج ، نعم إن اشتد أذاها بهم أو عكسه وكانت الدار ضيقة نقلهم الزوج عنها وخرج بالجيران ما لو طلبت بيت أبويها وتأذت بهما

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الطلاق حديث ٢١٧٨ ، وابن ماجه في الطلاق حديث ٢٠١٨.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ٨ / ١٤٩ ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ١٢ / ١٩١ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٥ / ١٧٦٤ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٣٦١ ، ٢ / ٤٨٢.

(٣) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ١ / ٢٧٨ ، والقرطبي في تفسيره ٣ / ١٢٦ ، ١٨ / ١٤٩ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٣٦١ ، والدارقطني في سننه ٤ / ٣٥ ، وابن الجوزي في العلل المتناهية ٢ / ١٥٥.

(٤) أخرجه أبو داود في الطلاق حديث ٢١٧٧.

٣٣٦

أو هما بها فلا نقل ، لأن الوحشة لا تطول بينهما ، ولو انتقلت لبلد أو مسكن بإذن زوجها فوجبت العدة ، ولو قبل وصولها إليه اعتدت فيه لأنها مأمورة بالمقام فيه ، فإن انتقلت لذلك بلا إذن فتعتد في الأول وإن وجبت العدة بعد وصولها للثاني لعصيانها بذلك. نعم إن أذن لها بعد انتقالها أن تقيم في الثاني فكما لو انتقلت بالإذن.

ولو أذن لها في الانتقال فوجبت العدة قبل خروجها اعتدت في الأول. ولو سافرت بإذن زوجها فوجبت في الطريق فعودها أولى من مضيها ، فإن مضت وجب عودها بعد انقضاء حاجتها إن سافرت لها ، أو بعد انقضاء مدة الإذن إن قدر لها مدة ، أو مدة إقامة المسافر إن لم تقدر لها مدة في سفر غير حاجتها.

ولو خرجت فطلقها وقال : ما أذنت في الخروج ، أو قال ـ وقد قالت : أذنت في نقلتي ـ : أذنت لا لنقلة ، صدق بيمينه ، ولو كان المسكن ملكا له ويليق بها تعين ؛ لأن تعتد فيه كما مر ويصح بيعه في عدة أشهر كالمكتري ، أو كان مستعارا ، أو مكرى وانقضت مدة الكراء انتقلت منه إن امتنع المالك ، وإن كان ملكا لها تخيرت بين الاستمرار فيه بإعارة أو إجارة والانتقال منه كما لو كان المسكن خسيسا ، ويخير هو إن كان نفيسا وسكنى المعتدة عن فرقة واجب على الزوج حيث تجب نفقتها عليه لو لم تفارق ، سواء أكانت الفرقة بطلاق أو فسخ أو وفاة لقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) [الطلاق : ٦] وقيس به الفسخ بأنواعه بجامع فرقة النكاح في الحياة ، ولخبر فريعة بنت مالك في الوفاة : «أن زوجها قتل فسألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ترجع إلى أهلها ، وقالت : إن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ، فأذن لها في الرجوع ، قالت : فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد ، دعاني فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا» (١) صححه الترمذي وغيره.

وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء التحتية ، والباقون بكسرها (وَتِلْكَ) أي : الأحكام العالية جدا لما فيها من الجلالة وبانتسابها إلى الملك الأعلى من هذا الذي ذكر في هذه السورة وغيرها (حُدُودُ اللهِ) أي : الملك الأعظم (وَمَنْ يَتَعَدَّ) أي : يقع منه في وقت من الأوقات أنه تعمد أن يعدو (حُدُودُ اللهِ) أي : الملك الذي لا كفء له أو بعضها كأن طلق بدعيا (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي : عرضها للعقاب.

وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الظاء ، والباقون بالإدغام (لا تَدْرِي) أي : نفس ، أو أنت أيها النبي ، أو المطلق (لَعَلَّ اللهَ) أي : الذي بيده القلوب ومقاليد جميع الأمور (يُحْدِثُ) أي : يوجد شيئا حادثا لم يكن إيجادا ثابتا لا تقدر الخلق على التسبب في زواله (بَعْدَ ذلِكَ) أي : الحادث من الإساءة والبغض (أَمْراً) بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها.

وقال أكثر المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة ، ومعنى الكلام التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث ، وهذا أحسن الطلاق وأحله في السنة وأبعده عن الندم.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الطلاق حديث ٢٣٠٠ ، والترمذي في الطلاق حديث ١٢٠٤ ، وابن ماجه في الطلاق حديث ٢٠٣١ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٤٣٤ ، ٤٣٥ ، والدارمي في الطلاق حديث ٢٢٨٧.

٣٣٧

ويدل عليه ما روي عن ابراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا للسنة إلا واحدة ، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضي العدة ، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا في ثلاثة أطهار. وقال مالك بن أنس : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو مفرقة. وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، فأما مفرقا في الأطهار فلا لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض : «ما هكذا أمر الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا وتطلقها لكل قرء تطليقة» (١) وروي أنه قال لعمر : «مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها تحيض ، ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» (٢) وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة ، وهو مباح. ومالك يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت ، وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت ، والشافعي يراعي الوقت وحده.

قال الزمخشري : فإن قلت : هل يقع الطلاق المخالف للسنة؟ قلت : نعم وهو آثم لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يديه فقال : أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم» (٣) وفي حديث ابن عمر أنه قال : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا فقال له : قال : «إذا عصيت وبانت منك امرأتك» (٤).

وعن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضربا ، وأجاز ذلك عليه. وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلّث لم يقع ، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف.

فإن قيل : قوله تعالى : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل ، فكيف صح تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن؟.

أجيب : بأنه لا عموم ثم ولا خصوص ، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس ، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن فجاز أن يراد بالنساء هذا وذلك ، فلما قيل : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض.

ولما حدّ سبحانه ما يفعل في العدة أتبعه ما يفعل عند انقضائها بقوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ) أي : المطلقات (أَجَلَهُنَ) أي : شارفن انقضاء العدة مشارفة عظيمة (فَأَمْسِكُوهُنَ) أي : بالمراجعة وهذا يدل على أن الأولى من الطلاق ما دون البائن لا سيما الثلاث (بِمَعْرُوفٍ) أي : حسن عشرة لا لقصد المضارة بطلاق آخر لأجل إيجاب عدة أخرى ، أو غير ذلك. (أَوْ فارِقُوهُنَ) بعدم المراجعة لتتم العدة فتملك نفسها (بِمَعْرُوفٍ) أي : بإيفاء الحق مع حسن الكلام وكل أمر حسنه الشرع ، فلا يقصد أذاها بتفريقها عن ولدها مثلا ، أو عنه إن كانت عاشقة له لقصد الأذى فقط من

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل.

(٣) أخرجه النسائي في الطلاق حديث ٣٤٠١ بلفظ : «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم».

(٤) أخرجه مسلم في الطلاق حديث ١٤٧١ ، والنسائي في الطلاق حديث ٣٥٥٧.

٣٣٨

غير مصلحة ، وكذلك ما أشبه ذلك من أنواع الضرر بالفعل والقول فقد تضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإفهامها اجتناب المنكرات.

تنبيه : قال بعض العلماء في قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وقوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩] إن الزوج له حق في بدن الزوجة ولها حق في بدنه وذمته فكل من له دين في ذمة غيره سواء أكان مالا ، أو منفعة من ثمن أو مثمن أو أجرة ، أو بدل متلف ، أو ضمان مغصوب ، أو نحو ذلك فعليه أن يؤدي ذلك الحق الواجب بإحسان ، وعلى صاحب الحق أن يتبع بإحسان كما قال تعالى في آية القصاص : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ١٧٨] وكذا الحق الثابت في بدنه مثل حق الاستمتاع والإجارة على عينه ونحو ذلك ، فالطالب يطلب بمعروف والمؤدي يؤدي بإحسان.

ولما كان الإشهاد أقطع للنزاع قال تعالى حاثا على الكيس واليقظة والبعد عن أفعال المغفلين العجزة : (وَأَشْهِدُوا) أي : على الرجعة أو المفارقة ، وقيل : المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) قطعا للنزاع ، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند الجمهور كقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) [البقرة : ٢٨٢] وأوجب الإشهاد في الرجعة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه ، والشافعي كذلك لظاهر الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الأخر : إن الرجعة لا تفتقر إلى القبول فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق.

وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة فليس بمراجع ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قبل أو باشر أو لمس بشهوة فهو رجعة ، وكذا النظر إلى الفرج رجعة ، وقال الشافعي وأبو ثور : إذا تكلم بالرجعة فهي رجعة ، وقيل : وطؤه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها ، وهو مذهب أحمد وإليه ذهب الليث وبعض المالكية. قال القرطبي : وكان مالك يقول : إذا وطىء ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد ، ولا يعود إلى وطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد ، وله الرجعة في بقية العدة الأولى ، وليست له الرجعة في هذا الاستبراء.

تنبيه : قوله تعالى : (مِنْكُمْ) قال الحسن : من المسلمين ، وعن قتادة : من أحراركم ، وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث لأن ذوي للمذكر. وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا) أي : أيها المأمورون حيث كنتم شهودا (الشَّهادَةَ) التي تحملتموها بأدائها على أكمل أحوالها (لِلَّهِ) أي : مخلصين لوجه الملك الأعلى لا لأجل المشهود له والمشهود عليه ، ولا شيء سوى وجه الله تعالى.

وفيه حث على أداء الشهادة لما فيه من العسر على الشاهد بترك مهماته وعسر لقاء الحاكم الذي يؤدي عنده ، وربما بعد مكانه وكان للعدل في الأداء عوائق أيضا (ذلِكُمْ) أي : الذي ذكرت لكم أيتها الأمة من هذه الأمور البديعة النظام العالية المرام ، وأولاها بذلك هذا الإشهاد وإقامة الشهادة (يُوعَظُ) أي : يلين ويرقق (بِهِ مَنْ كانَ) أي : كونا راسخا من جميع الناس (يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي : الذي له الكمال كله (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإنه المحط الأعظم للترقيق ، وأما من لم يكن متصفا بذلك فكأنه لقساوة قلبه ما وعظ به لأنه لم ينتفع به.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي : يخف الملك الأعظم فيجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية بما يرضيه ، وهو اجتلاب ما أمر به واجتناب ما نهي عنه من الطلاق وغيره ، ظاهرا وباطنا لأن

٣٣٩

التقوى إذا انفردت في القرآن عن مقارن عمت الأمر والنهي ، وإن اقترنت بغيرها نحو إحسان أو رضوان خصت المناهي (يَجْعَلْ) أي : بسبب التقوى (لَهُ مَخْرَجاً) جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق بالوعد على اتقائه عما نهى عنه صريحا أو ضمنا من الطلاق في الحيض والإضرار بالمعتدة وإخراجها من المسكن ، وتعدي حدود الله تعالى. روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج فتلاها» (١) وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والثعلبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة ، أي : من طلق كما أمره الله تعالى يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا : يجعل له مخرجا ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، وقيل : المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه ، قاله علي بن صالح. وقال الكلبي : ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجا من النار إلى الجنة ، وقال الحسن : مخرجا مما نهى الله عنه ، وقال أبو العالية : مخرجا من كل شدة ، وقال الربيع بن خيثم : مخرجا من كل شيء ضاق على الناس ، وقال الحسين بن الفضل : ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجا من العقوبة.

(وَيَرْزُقْهُ) أي : الثواب (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي : يبارك له فيما أتاه ، وقال سهل ابن عبد الله : ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجا من عقوبة البدع ، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب ، وقال أبو سعيد الخدري : ومن تبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله تعالى يجعل له مخرجا مما كلفه الله بالمعونة له ، وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم ، وهذا هو الذي يقوى عندي.

وقال أبو ذر : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني لأعلم آيه لو أخذ الناس بها لكفتهم ، وتلا : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال : مخرجا من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة» (٢).

وقال أكثر المفسرين : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنا له يسمى سالما فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشتكي إليه الفاقة ، وقال : إن العدو أسر ابني وجزعت الأم فما تأمرني؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتق الله واصبر ، وآمرك وإياها أن تكثرا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرني وإياك أن نكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فقالت : نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم وجاء بها إلى المدينة وهي أربعة آلاف شاة فنزلت الآية ، وجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الأغنام له» (٣) وروي أنه جاء وقد أصاب إبلا من العدو ، وكان فقيرا. فقال الكلبي : إنه أصاب خمسين بعيرا ، وفي رواية فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة لقوم فمر بسرح لهم فاستاقه ، وقال مقاتل : أصاب غنما ومتاعا ، فقال أبوه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني قال : نعم ونزل (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وروى الحسن عن عمران بن

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) أخرجه الدارمي في الرقاق حديث ٢٧٢٥ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٥٣٠٦.

(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٣٤٠